تطور التعليم في السودان: دليل شامل عبر التاريخ

في السودان، يمتد تاريخ التعليم لقرون خلت، حيث لعبت الخلاوي التقليدية دورًا بارزًا في نشر المعرفة الدينية والقرائية بين أجيال متعاقبة. ومع ذلك، شهدت مسيرة التعليم السوداني تطورات كبيرة على مر الزمن، حملتها جهودٌ فرديةٌ وحكوميةٌ وشعبية. ففي عام 1907م، قام الشيخ بابكر بدري بإحداث نقلة نوعية بإنشاء أول مدرسة للبنات في مدينة رفاعة بالسودان. وبفضل جهوده، أصبح تعليم النساء «هو المعيار السائد» في السودان بعد مواجهة عقبات مجتمعية وسياسية. من هذا المنطلق، شهدت السودان نهضةً تعليميةً متعددة المراحل منذ العهد الاستعماري إلى اليوم، مما رفع مكانة التعليم ببلادنا إقليميًا.

النظم التعليمية عبر العصور

  • التعليم التقليدي (الخلاوي والكتاتيب): قبل الفترة الحديثة، كان التعليم في السودان يعتمد أساسًا على كتاتيب القرآن (الخلاوي)، التي عملت كمنارة دينية تعلّم القرآن ومبادئ القراءة والكتابة الأساسية. انتشرت هذه المدارس المرتبطة بالمساجد في مختلف المناطق، وجذبت الطلاب من داخل السودان وخارجه بتعليمها المتأصل في الثقافة السودانية.

  • فترة الحكم التركي-المصري (1821-1885): لم تشهد هذه الحقبة مؤسسات تعليمية حديثة بقدر ما انتشرت الخلاوي وتعليم الشريعة، إلا أن بعض الأثار تشير إلى نشاط تعليمي بسيط مقصور على النخب الحاكمة.

  • الدولة المهدية (1881-1898): اتسمت هذه الفترة بانقطاع التعليم الحديث وعودة التركيز على التحفيظ الديني والتربية الصوفية، ما أدى إلى توقف معظم المدارس الحكومية المنشأة في العهد التركي-المصري.

  • الاحتلال الثنائي الإنجليزي-المصري (1899-1956): دخل السودان مرحلة التخطيط الحديث للتعليم؛ فبدأت السلطات الاستعمارية بتأسيس مدارس ابتدائية لتأهيل الموظفين الصغار، إلى جانب تأسيس معاهد عليا في الخرطوم وأم درمان. ففي عام 1912، شُيّدت معهد أم درمان العلمي الإسلامي، وتأسست كلية غوردون التذكارية عام 1920. كما ركزت السياسة الاستعمارية على الجنوب عبر إدخال التعليم بمساعدة البعثات المسيحية من عام 1922، حيث تدرّس المراحل الأولى باللغات المحلية وحُصر التدريس بالإنجليزية في المراحل العليا. وفي ذلك الحين، بلغ تعداد الطلاب في المدارس الحكومية نحو 70 ألفًا شمالًا وحوالي 19 ألفًا جنوبًا (بحسب إحصاء 1947).

  • مرحلة ما بعد الاستقلال (1956–1989): مع استقلال السودان عام 1956، استمر توسع التعليم. فقد تحولت كلية غوردون إلى جامعة الخرطوم في عهد أول حكومة وطنية. وعمّت أنظمة التعليم الابتدائي والثانوي تدريجيًا، حيث كانت الفترة متوسطة (الإعدادية) مخصصة للصفوف 9-11، ثم الثانوية العامة 12-14. وبحسب التقارير، كان نظام المدارس الأولية بحالة جيدة عند الاستقلال مع زيادة بناء مدارس وجامعات جديدة. وكان عدد الجامعات قد بلغ في نهاية الثمانينات خمس جامعات حكومية وجامعتين خاصتين. كما أصدرت الحكومات المتعاقبة قوانين لجعل التعليم الابتدائي مجانيًا وإلزاميًا؛ ففي الدستور الوطني لعام 2005، نص على مجانية وإلزامية التعليم من سن 6 إلى 13 عامًا.

  • عهد النميري (1969–1985): شهدت هذه الفترة إصلاحات مهمة مثل تعميم التعليم الأساسي. فقد اعتمد قانون التعليم العام الصادر عام 1973 إلزامية التعليم لمدة تسع سنوات وإلغاء الرسوم المدرسية تقريبًا، مما أدى إلى زيادة ملحوظة في الالتحاق بالمدارس. واستفاد التعليم من ثروة النفط الناشئة في أواخر السبعينات لتوسيع البنية التحتية وتدريب المعلمين.

  • عهد الإنقاذ الوطني (1989–2019): بعد انقلاب 1989، طُبّقت سياسات لإسلامة التعليم العربي. ففي سبتمبر 1990، قرر النظام القومي إصلاح المناهج لتشمل مبادئًا إسلامية، كما وضع شروطًا جديدة مثل عضوية الطلاب في قوات الدعم الشعبي للالتحاق بالجامعات. وفي عام 1991 فرض العربية لغة تدريس رسمية بدلاً عن الإنجليزية، وأمر بمضاعفة الطاقة الاستيعابية للجامعات وزيادة عددها. نتيجة لذلك، ارتفع عدد الجامعات بحلول عام 2006 إلى 27 جامعة عامة و5 خاصة، بينما زاد عدد طلاب التعليم العالي من 6 آلاف في 1989 إلى أكثر من 38 ألف في عام 2000 (بنمو 535%). وكان لهذه السياسات أثارٌ في الجنوب، حيث جذبت التغييرات اعتراضات عارمة، مما ساهم في تعميق النزاع الأهلي حتى كاد التعليم هناك يتلاشى بالكامل.

  • المرحلة الانتقالية الحالية (2019–الآن): في فترة الانتقال الديمقراطي (2019–2021)، أعادت الحكومة المدنية الاعتبار للتعليم. فجرى التخطيط لرفع نصيب التعليم من الموازنة إلى 20% بدلاً من 3% السابقة. وفي 2020، منح البنك الدولي السودان تمويلًا بقيمة 61.5 مليون دولار لدعم مشاريع تعليمية. غير أن الصراع الداخلي منذ 2023 ألقى بظلال داكنة على هذه التطلعات.

مراحل التعليم ومستوياتها

  • رياض الأطفال (مرحلة ما قبل المدرسة): يبدأ التعليم في السودان عادةً من سن 4 أعوام، حيث يلتحق الأطفال بمرحلة الحضانة أو الكُتّاب (الخلاوي) لمدة عامين تحضيريين. وتهدف هذه المرحلة إلى تأهيل الأطفال أساسًا للالتحاق بالمدرسة الابتدائية.

  • التعليم الابتدائي (الأساسي): يمتد من سن 6 إلى 13 عامًا عبر ثمانية صفوف دراسية (1–8). وفي نهاية هذه المرحلة يخضع الطلاب لامتحان شهادة الأساس، بعد اجتيازه يكون الطالب مؤهلاً للدخول إلى المرحلة الإعدادية.

  • التعليم المتوسط (الإعدادي): يغطي الصفوف 9–11، ويمثل مرحلة انتقالية تحضيرية للدخول إلى الثانوية. يكتسب الطالب في هذه المرحلة أساسيات علمية وأدبية تمهيدًا لامتحانات الشهادة الثانوية.

  • التعليم الثانوي: يشمل الصفوف 12–14، وينتهي بحصول الطالب على شهادة الثانوية العامة (الشهادة السودانية) التي تؤهله لمتابعة التعليم العالي. يتنوع التعليم الثانوي بين المسارات الأكاديمية والعلمية والفنية.

  • التعليم الجامعي والعالي: يندرج ضمنه الجامعات والمعاهد الحكومية والخاصة، حيث يدرس الطلاب تخصصات متنوعة وينالون درجة البكالوريوس. بعد ذلك، يمكن للطلاب مواصلة دراساتهم في برامج الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) في الجامعات ومراكز البحوث.

المساهمون في تطوير التعليم

تقع مدينة رفاعة بوسط السودان، وتُعد مسقط رأس الشيخ بابكر بدري، الذي أسس فيها أول مدرسة للبنات عام 1907م. اشتهر بدري بلقب «معلّم البنات» لقيامه بثورة تعليمية واجهت عقبات مجتمعية وسياسية، لكن صموده أعاد تعريف دور المرأة في المجتمع السوداني. وتواصلت المسيرة بعطاء معلمين سودانيين آخرين ومفكرين رائدين وساهمت المؤسسات الدينية في نشر التعليم. من جانبها، بذلت الحكومة السودانية جهودًا متعددة المراحل لبناء المدارس وتوسيع الجامعات عبر العقود، وشكلت الوزارات والسلطات المختصة لجانًا للتخطيط التربوي. ولا تزال المنظمات الدولية شريكًا رئيسيًا؛ فقد دعمت اليونسكو والبنك الدولي ومؤسسات أخرى مشروعات بناء المدارس وتدريب المعلمين وتحسين المناهج. كما عمل القطاع الأهلي والمجتمع المدني من خلال جمعيات معلمين وقطاع خاص لتعزيز برامج التعليم الابتدائي وتحسين جودة التعليم في المناطق المحرومة. جميع هؤلاء المساهمين أسهموا في الدفع قُدمًا بـتطور التعليم في السودان وتوسيع فرصه للمواطنين.

العراقيل والتحديات

رغم الإنجازات، يواجه التعليم في السودان عدة تحديات منها:

  • نقص التمويل: ظل التعليم أقل أولويات الميزانية، حيث لا يتجاوز الإنفاق الحكومي على التعليم نسبة 1–2% من الموازنة الكلية لعقود، مما أدى إلى تدني البنية التحتية المدرسية وقلة التجهيزات.

  • النزاعات والحروب: أدت الحروب الأهلية والانقلاب الحالي (2023–الآن) إلى تعطيل كامل للعملية التعليمية. فبحسب اليونسكو، أصبح نحو 19 مليون طفل خارج المدارس بسبب الحرب، وقُدمت مساعدات عاجلة لتشغيل آلاف المدارس وضمان استمرارية تعليم 4 ملايين طفل ابتدائي.

  • عوائق ثقافية واجتماعية: ظهرت مقاومة تقليدية لفكرة التعليم في بعض المجتمعات، خاصةً في بدايات العصر الحديث. فقد كان مشروع تعليم البنات يواجه رفضًا من قِبل من كبار السن وبعض الجهات الاجتماعية في الماضي. ولا تزال بعض العادات مثل الزواج المبكر والتسرب المدرسي الناجم عن الفقر تحد من نسبة الالتحاق، خاصة بين الفتيات في المناطق الريفية.

  • نقص الكوادر التعليمية وجودة التعليم: تعاني المدارس من قصور في عدد المعلمين المدربين ونقص في المواد التعليمية. وقد سعت البرامج الحكومية والإغاثية إلى تدريب المعلمين وزيادة توظيفهم، لكنها لم تسد الفجوة كاملة.

  • القصور المؤسسي: يشير خبراء إلى ضعف التنسيق وسياسات التوزيع بين ولايات السودان في توفير التعليم، إضافةً إلى ضرورة تحديث المناهج لتواكب التطورات العالمية.

هذه العوامل أضافت صعوبات إلى مسيرة التطوير، لكنها في الوقت نفسه حفزت تبني حلول إبداعية من المجتمع الدولي والمحلي معًا.

الخلاصة

شهد تطور التعليم في السودان مراحل تاريخية متلاحقة، بدأت من التعليم الديني التقليدي (الخلاوي)، مرورًا ببناء الأنظمة المدرسية في عصر الاستعمار، وصولًا إلى إنشاء الجامعات وتعديل المناهج الوطنية. واستمرت التطورات مع استقلال السودان بتوسيع شبكة المدارس وإصدار قوانين التعليم المجاني والإلزامي. وفي العقود الأخيرة، ساهم فتح الجامعات وتطبيق السياسات التعليمية في زيادة أعداد الدارسين وتحقيق بعض المنجزات. ومع ذلك، لا تزال التحديات – مثل التمويل المحدود والصراعات الاجتماعية الحالية ونقص المعلمين – قائمة، وتتطلب متابعة ودعمًا مستدامًا. ويؤكد الخبراء أن الاستثمار في التعليم هو المفتاح لإنهاض السودان وبناء جيل قادر على قيادة المستقبل، كما يتضح من الجهود الدولية الجارية لدعم التعليم في ظل الأزمة الراهنة.